فصل: المسألة الأولى: في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على الإغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السابعة والعشرون واختلفوا أيضًا في قدر المُعْطَى؛ فالغارم يُعْطَي قدر دَيْنه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما.
وفي جواز إعطاء النصاب أو أقلّ منه خلافٌ ينبني على الخلاف المتقدم في حدّ الفقر الذي يجوز معه الأخذ.
وروى عليّ بن زياد وابن نافع: ليس في ذلك حدّ، وإنما هو على اجتهاد الوالي.
وقد تقِلّ المساكين وتكثر الصدقة فيعطي الفقير قوت سَنة.
وروى المُغِيرة: يعطَى دون النصاب ولا يبلغه.
وقال بعض المتأخرين: إن كان في البلد زكاتان نقد وحَرْث أخذ ما يبلّغه إلى الأخرى.
قال ابن العربيّ: الذي أراه أن يعطى نصابًا، وإن كان في البلد زكاتان أو أكثر؛ فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيًا.
فإذا أخذ ذلك فإن حضرت الزكاة الأخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره.
قلت: هذا مذهب أصحاب الرأي في إعطاء النصاب.
وقد كره ذلك أبو حنيفة مع الجواز، وأجازه أبو يوسف؛ قال: لأن بعضه لحاجته مشغول للحال، فكان الفاضل عن حاجته للحال دون المائتين، وإذا أعطاه أكثر من مائتي درهم جملةً كان الفاضل عن حاجته للحال قدر المائتين فلا يجوز.
ومن متأخريّ الحنفية من قال: هذا إذا لم يكن له عيال ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين فلا بأس أن يعطيَه مائتي درهم أو أكثر، مقدار ما لو قضى به دينه يبقى له دون المائتين.
وإن كان مُعِيلًا لا بأس بأن يعطيَه مقدار ما لو وَزّع على عياله أصاب كلّ واحد منهم دون المائتين؛ لأن التصدّق عليه في المعنى تصدّق عليه وعلى عياله.
وهذا قول حسن.
الثامنة والعشرون اعلم أن قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} مطلقٌ ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء كانوا من بني هاشم أو غيرهم؛ إلاَّ أن السنة وردت باعتبار شروط: منها ألا يكونوا من بني هاشم وألا يكونوا ممن تلزم المتصدّق نفقته.
وهذا لا خلاف فيه.
وشرط ثالث ألاَّ يكون قوِيًّا على الاكتساب؛ لأنه عليه السَّلام قال: «لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مِرّة سَوِي» وقد تقدّم القول فيه.
ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحلّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا لبني هاشم ولا لمواليهم.
وقد روي عن أبي يوسف جواز صرف صدقة الهاشميّ للهاشميّ؛ حكاه الكيا الطبريّ.
وشذ بعض أهل العلم فقال: إن موالى بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات.
وهذا خلاف الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه قال لأبي رافع مولاه: «وإن مَوْلَى القوم منهم».
التاسعة والعشرون واختلفوا في جواز صدقة التطوّع لبني هاشم؛ فالذي عليه جمهور أهل العلم وهو الصحيح أن صدقة التطوّع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم؛ لأن عليًّا والعباس وفاطمة رضوان الله عليهم تصدّقوا وأوقفوا أوقافًا على جماعة من بني هاشم، وصدقاتُهم الموقوفة معروفة مشهورة.
وقال ابن الماجِشون ومُطَرِّف وأَصْبَغ وابن حبيب: لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ولا من التطوّع.
وقال ابن القاسم: يعطى بنو هاشم من صدّقة التطوّع.
قال ابن القاسم: والحديث الذي جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لآل محمد» إنما ذلك في الزكاة لا في التطوّع.
واختار هذا القول ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
قال ابن القاسم: ويُعْطَى مواليهم من الصدقتين.
وقال مالك في الواضحة: لا يعطى لآل محمد من التطوّع.
قال ابن القاسم: قيل له يعني مالكًا فمواليهم؟ قال: لا أدري ما الموالي.
فاحتججت عليه بقوله عليه السَّلام: «مَوْلى القوم منهم» فقال قد قال: «ابن أخت القوم منهم» قال أصْبَغَ: وذلك في البرّ والحُرْمة.
الموفية ثلاثين قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} بالنصب على المصدر عند سيبويه.
أي فرض الله الصدقات فريضةً.
ويجوز الرفع على القطع في قول الكسائي؛ أي هن فريضة.
قال الزجاج: ولا أعلم أنه قرئ به.
قلت: قرأ بها إبراهيم بن أبي عَبْلة، جعلها خبرًا، كما تقول: إنما زيد خارج. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية.
اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات بيَّن الله في هذه الآية إن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية ومصرفها إليهم ولا تعلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه منها شيئًا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فلا مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات.
عن زياد بن الحرث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود.

.فصل: في بيان حكم هذه الآية:

وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على الإغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس:

وذلك من وجوه، الوجه الأول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال محبوبًا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال اشتغل به عن حب الله وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى الله فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن الله فيصير سببًا للقرب من الله بإخراج الزكاة منه.
الوجه الثاني: إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها ولذاتها فأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب.
الوجه الثالث سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن لأن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق على النفس فأوجب الله الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال لتميز بذلك المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها.
الوجه الرابع أن المال مال الله والأغنياء خزان الله والفقراء عيال الله فأمر الله سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله.
(ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كاملًا موفرًا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين» الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال التي بأيدي الأغنياء فأوجب الله نصيبًا للفقراء في ذلك المال تطييبًا لقلوبهم.
الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك بقي معطلًا عن المقصود الذي لأجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى لا يصير ذلك المال معطلًا بالكلية.

.المسألة الثانية: [في دلالة الآية على أنه لا حق لأحد في الصدقات غير هؤلاء الأصناف الثمانية]:

الآية تدل على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا هؤلاء الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه لأن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك لأنها مركبة من إن وما فكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات لا تصرف إلا إلى الأصناف الثمانية.

.المسألة الثالثة: في بيان الأصناف الثمانية:

فالصنف الأول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري: الفقير الذي لا يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على الشيء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
وقال قتادة: الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعًا زمنًا كان أو غير زمن والمسكين من له مال أو حرفة ولكن لا تقع منه موقعًا لكفايته سائلًا كان أو غير سائل فالمكسين عنده أحسن حالًا من الفقير.
وقال أبو حنيفة، وأصحاب الرأي: الفقير أحسن حالًا من المسكين ومن الناس من قال لا فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن الله سبحانه وتعالى حكم بصرف الصدقات إلى هؤلاء الأصناف الثمانية دفعًا لحاجتهم وتحصيلًا لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فالأهم فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت ** رفع القوادم كالفقير الأعزل

قال ابن الأعرابي: الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي فقيرًا لزمانته وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر وقال: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حالًا من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت بهذا أن المسكين أحسن حالًا من الفقير ولأن الله سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملكًا مع اسم المسكنة لأن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ولأن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حالًا من المسكين وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حالًا من الفقير قوله أو مسكينًا ذا متربة وصف المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة ولأن الله تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج أيضًا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم يترك له سبد

واحتج أيضًا بقول الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له وكذا قال القتيبي: الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له وقيل: الفقير الذي له المسكن والخادم والمسكين الذي لا ملك له وقيل: إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيًا عن غيره قال الله سبحانه وتعالى: {أنتم الفقراء إلى الله} فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو مسكينًا ذا متربة فهو حجة لمذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه لأنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن الاستدلال ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه فسقط الاستدلال به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين.
وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «ولا لذي مرة قوي» عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن الصدقة فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال الأكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي.